همكَ عطل علي الهموم ، وحالف بيني وبين السهاد ، وشوقي إلى النظر إليك أوبق مني اللذات ، وحال بيني
وبين الشهوات "
هكذا كان يناجي داوود الطائي ربه في جوف الليل ..
الهموم.. والأكدار..
أصبحت حديث الساعة في زمننا والله المستعان..
لا يخلو قلبٌ من هم.. ولا صدرٌ من كدر.. ولا عينٌ من دمعة..
لستُ هنا لأقول لا للهم.. بل لأقول أبشر يا صاحب الهم..
أبشر يا صاحب الهم لأنك أدركت الدنيا على حقيقتها.. تلك التي لا يدركها إلا أصحاب الهموم.. يرونها كاسمها دنيّة..
( من علاج المصيبة أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأصحاب المصائب ولينظر يمنة فهل يرى إلا محنة ثم
ليعطف يسرة فهل يرى إلا حسرة وأنه لو فتش العالم لن يرى فيهم إلا مبتلى إما بفوت محبوب أو حصول
مكروه وأن سرور الدنيا أحلام نوم أو كظل زائل إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا وإن سرت يوما ساءت دهرا وإن
متعت قليلا منعت طويلا وما ملئت دارا حبرة -أي سعادة- إلا ملأتها عبرة ولا سرته في يوم بسرور إلا خبأت له يوم شرور )
- من كلام ابن القيم -
لهذا كان مما تميزت به الجنة عن الدنيا أنه ليس فيها هم ولا غم " لا يمسهم فيها نصب وما هم منها
بمخرجين" ، وأهلها لا تتكدر خواطرهم ولا بكلمة " لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاماً "
ليست المشكلة في وجود الهم .. بل المشكلة إن أشغلَنا هذا الهم عن رضا الله عز وجل..
المشكلة إن لم نأخذ درساً من هذه الهموم..
المشكلة إن لم نعي حقيقة الدنيا وأنها لا تستحق منا شيئاً ..
قال الحسن : " رحم الله عبداً وقف عند همه ، فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر "
( من جعل الهموم هماً واحداً ، همّ آخرته ، كفاه الله هم دنياه ، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم
يبال الله في أي أوديتها هلك )
/ حديث حسن
( من كانت الدنيا همه ، فرق الله عليه أمره ، و جعل فقره بين عينيه ، و لم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ، و
من كانت الآخرة نيته ، جمع الله له أمره ، و جعل غناه في قلبه ، و أتته الدنيا و هي راغمة )
/ السلسلة الصحيحة
أيها المهموم..
اعتصم بالله والجأ له وحده.. فمَن خلقكَ أعلم بك وبهمومك.. وإنه جل في علاه على كل شيءٍ قدير.. قادرٌ
أن يزيل همّك وييسر أمرك ما بينغمضةعينٍ وانتباهتها..
( وعزتي وجلالي ما اعتصم بي عبدٌ فكادت له السموات والأرض إلا جعلتُ له من بينها فرجاً ومخرجاً ،
وعزتي وجلالي ما اعتصم عبدي بغيري إلا أسختُ الأرض من تحت قدميه )
- أثر قدسي -
يقول صلى الله عليه وسلم :
" قال الله تعالى : ما من عبدٍ نزلت به نائبةٌ فاعتصم بي دون خلقي إلا أعطيته قبل أن يسألني ، واستجبت
له قبل أن يدعوني "
/ حديث حسن
* أكثري من تلاوة القرآن الكريم وسماعه بصوتٍ مؤثر..
وواللهِ أقولها عن تجربة.. عندما تحيط بي الهموم أشعر براحة ٍ ما بعدها راحة عند تلاوتي للقرآن الكريم أو سماعي له..
لا تنسَي الدعاء ..
يقول صلى الله عليه وسلم : * " من أصابه همٌ أو غمٌ أو سقمٌ أو شدة، فقال : الله ربي، لا شريك له، ولا أُشرك به شيئاً كشفَ ذلك عنه " / صحيح الجامع
* " دعوات المكروب : اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كلّه، لا إله إلا أنت "
/ صحيح الجامع
* كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل به همٌ أو غمٌ قال : " يا حيّ يا قيوم برحمتك أستغيث "
/ صحيح الجامع
* لقّن رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه كلماتٍ وأمره إن نزل به كربٌ أو
شدة أن يدعو بها، قال : " لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحانه تبارك الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين "
/ مسند الإمام أحمد
* من أعظم الأحاديث التي كان يسميها السلف الصالح ( دعاء الكرب ) وهو الذي ما حز بالنبي صلى الله
عليه وسلم أمرٌ أو مصاب إلا دعا به : " لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا
الله رب السماوات ورب الأرض، رب العرش الكريم "
/ متفقٌ عليه
* " ما أصاب أحدٌ قط همٌ ولا حزنٌ فقال : اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ
حكمك، عدلٌ فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسمٍ هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدً من
خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب
هميّ، إلا ذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرجاً " وفي رواية : فرحاً "
/ مسند الإمام أحمد 1/452 وحسنه ابن حجر
* {لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنبياء: 87]، قالها يونس عليه السلام فنجا مما فيه من الغم ،
قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}[الأنبياء: 88]
..:: نظرة مشرقة ::..
لو نظرتِ إلى الأمور من حولك نظرة إيجابية مشرقة لما اعتراكِ همّ ، فحتى الألم الذي نحيد عنه ونخشى
منه هو في أصله نعمة ، فهو يعلمك الصبر ويصقل نفسك ، وينذرك بوجود علة في جسدك ويجعلكِ
تشعرين بآلام الآخرين ، وفوق هذا فهو يقربك من خالقك فتشعرين بحاجتك الماسة إليه ..
..:: صدقة ::..
تمر بنا أوقات تكسو قلوبنا الهموم وتحول بينها وبين النور.. فما الحل؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم :
(إن أردت أن يلين قلبك ، فأطعم المسكين ، و امسح رأس اليتيم ) / حديث حسن
..:: لا ماض ٍ ولا مستقبل ::..
إن كان حزنكِ لأمر ٍ مضى وانتهى فلا تُذهبي نفسكِ حسراتٍ عليه.. مهما كان.. فالهمّ لن يعيد ماضياً
مشرقاً ، ولن يصلح أخطاءً مضت..
وإن كان حزنكِ لأمر ٍ تخشينه في المستقبل فلا تقلقي .. فالمستقبل ليس بيدكِ ولا بيد أحد.. بل هو بيد
الخالق جل في علاه.. فلمَ تشغلين بالكِ في أمور ٍ سُجلت في قدرك وقد رفعت الأقلام وجفت الصحف.. فتوكلي على الله.. وأكثري من الدعاء.. واستبشري ..
وإن كان همّكِ بسبب مرض أو ابتلاء.. فاصبري وأبشري.. فما هو إلا تمحيص ورفع لدرجتك وتطهير لذنوبك..
وإن كان همّك وكدركِ بسبب المعاصي والذنوب فأكثري من الاستغفار والأذكار واعلمي أن الذنوب تُلبسكِ غمّاً
وضنكاً في الدنيا ومثله في الآخرة ..
كم يتوق قلبي للّحظة التي يرقى بها كلّ منّا بهمومه .. ويصل لمرحلة ..
" همّك يارب عطّل علي الهموم "
:
:
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفركَ وأتوب إليك .